تحوّل الصراع في السودان من نزاع نفوذ داخلي إلى حرب وكالات إقليمية وعالمية تضرب استقرار القرن الأفريقي. يكشف هذا التحليل عن تدويل متسارع يتجاوز ملف المرتزقة التقليدي (كالمرتزقة الكولومبيين والجهات المدعومة من حفتر في ليبيا لصالح الدعم السريع)، ليؤكد على التدخل العسكري الإريتري الداعم للجيش السوداني (SAF)، ووجود أعداد كبيرة من مقاتلي جبهة تحرير تيغراي (TPLF) كقوة وكيلة أخرى. تُشير التطورات إلى أن المصالح الإقليمية، لا سيما نظام أسمرة برئاسة إيساياس أفورقي، تتجه نحو استدامة الصراع، حيث يرى أفورقي أن أي نجاح لجهود الوساطة قد يعزز موقف حميدتي ويُهدد أمن نظامه من خلال دعم محتمل للمعارضة الإريترية في المستقبل. ورغم وجود خلافات داخل القيادة الأمنية الإريترية حول تزايد الاستنزاف في السودان بسبب المخاوف من صراع مرتقب مع إثيوبيا، فإن أفورقي يدفع باتجاه إرسال المزيد من الجنود، معتبراً المصالحة السودانية تهديداً أمنياً وجودياً.
- المقدمة: الإطار الجيوسياسي لتدويل الصراع
يُمثل الصراع الدائر في السودان منذ أبريل 2023 نقطة تحول جيوسياسية حرجة. لم يعد الاشتباك بين القوات المسلحة السودانية (SAF) بقيادة عبد الفتاح البرهان وقوات الدعم السريع (RSF) بقيادة محمد حمدان دقلو (حميدتي) نزاعًا محليًا. بل أصبح منصة مفتوحة لتدخلات إقليمية واسعة، تغذيها حسابات أمن قومي وأنظمة شخصية متجذرة في التاريخ الإقليمي.
الفرضية: إن استمرار الصراع وتصاعده يعكس فشلاً ذريعاً في حصر النزاع محلياً، حيث تحولت الخرطوم إلى ساحة مواجهة بين قوى إقليمية متنافسة. هذا التدويل يتمحور حول ملف المرتزقة من الجانبين والتدخل المباشر، وأبرزه الاستنفار الإريتري الذي يتميز بالتقلب الاستراتيجي واللعب على وتر التناقضات القبلية في شرق السودان.
2.2. النظام الإريتري: الأهداف الاستراتيجية والخلافات الداخلية
يعكس موقف إيساياس أفورقي تقلبًا استراتيجياً مدفوعاً بحسابات أمن النظام:
- التحول الاستراتيجي: وقف أفورقي في البداية إلى جانب حميدتي (لقاء ما قبل الحرب)، اعتقاداً منه بأن البرهان يمثل بقايا الإسلاميين. لكنه قلب الأوراق بسرعة بعدما تبين أن ولاء شرق السودان وقبائل البجا للجيش السوداني، مما ضمن بقاء نفوذ الجيش على الحدود الإريترية.
- لعبة التناقضات القبلية: تواصل مخابرات أفورقي لعب “لعبة خطرة“ لـ تعكير صفو الانسجام في شرق السودان من خلال دعم أطراف متنازعة من قبائل الهندودا/البني عامر، خوفاً من الامتداد الكبير للبني عامر داخل إريتريا واحتمالية دعم حميدتي لهم لاحقاً.
- الخلافات في القيادة الإريترية (الاستنزاف والتصعيد): تشير المعلومات إلى وجود خلافات داخل القيادات الأمنية والعسكرية الإريترية فيما يخص التدخل المتزايد في السودان. تعود هذه الخلافات إلى مخاوف من استنزاف القوات التي قد تحتاجها أسمرة في صراع مرتقب مع إثيوبيا. ومع ذلك، يدفع أفورقي باتجاه إرسال المزيد من الجنود، حيث يرى أن نجاح المصالحة السودانية وبقاء حميدتي أو حلفائه في السلطة يمثل تهديداً أمنياً وجودياً مباشراً لنظامه، خشية دعمه للمعارضة الإريترية انطلاقاً من شرق السودان.
2. أقسام التحليل: حرب الوكالات والتدخل المباشر
2.1. ملف المرتزقة وتوزيع النفوذ الإقليمي (التدخل الإريتري ومرتزقة كولمبيا)
يشير التدويل إلى تدخلات عسكرية منظمة ومؤثرة من أطراف متعددة:
- التدخل الإريتري المباشر (لصالح الجيش): تشير مصادر مطلعة لـ “مركز القرن الأفريقي للسياسات” إلى وجود ما يقارب 10,000 جندي إريتري يقاتلون إلى جانب الجيش السوداني. وقد شاركت هذه القوات بشكل فعال في معارك حاسمة ضد الدعم السريع، لا سيما أثناء القتال في مناطق الجزيرة ومدينة ود مدني والخرطوم .
- مرتزقة التيغراي كقوة وكيلة: هناك معلومات موثقة حول تمركز أكثر من 15,000 جندي تابع لجبهة تحرير تيغراي (TPLF – جناح دبراصيون) في مناطق استراتيجية بشرق السودان والسنار. وتؤكد مصادر قيادية سابقة في جيش التيغراي أن هؤلاء المرتزقة شاركوا في حرب السودان، تحديداً في تحرير مناطق مثل السنار والسنجة من قبضة الدعم السريع.
- مرتزقة لصالح الدعم السريع : تُشير بعض التقارير التي تحتاج الى تحقيق مستقل إلى وجود مرتزقة أجانب (كولومبيين وغيرهم) يقاتلون إلى جانب الدعم السريع وهو ما يعكس شبكة معقدة من المصالح المالية والعسكرية.
2.3. التصعيد الإقليمي والبحر الأحمر: تدويل ملف السلاح
تحولت أسمرة، إلى نقطة ارتكاز رئيسية للتدخل الخارجي:
- أسمرة كمنفذ جوي: تشير المعلومات إلى هبوط ما يزيد عن 12 طائرة شحن في مطاري أسمرة ومصوع الإريتريين خلال الفترة الممتدة من أواخر أكتوبر وبداية نوفمبر، محملة بالأسلحة. وتفيد المصادر بأن إيران هي المصدر الأغلب لهذه الشحنات.
- التداعيات الجيوسياسية: هذا التدخل المباشر يفتح المجال لتدخلات مضادة من جهات تعادي إيران، مما يُنذر بتحويل منطقة البحر الأحمر والقرن الأفريقي إلى ساحة صراع وكالات مفتوحة وطويل الأمد، مما يهدد الملاحة والأمن الدولي.
- الخلاصة والتوصيات الاستراتيجية
إن حرب السودان لم تعد حرباً أهلية، بل أصبحت صراعاً متعدد الأوجه تتدخل فيه القوى الإقليمية عبر المرتزقة، وتُستخدم فيه الديناميكيات القبلية المحلية كوقود.
الانتهاكات والتقارير الدولية: من الضروري الإشارة إلى أن الفظائع والإساءات ضد المدنيين، لا سيما في دارفور والجزيرة، تُرتكب من كلا الجانبين المتحاربين. وقد أشارت تقارير منظمة هيومن رايتس ووتش ومنظمة العفو الدولية، بالإضافة إلى بيانات الأمم المتحدة، إلى ارتكاب الطرفين جرائم حرب وفظائع ضد النساء والأطفال المدنيين .
التوصيات الاستراتيجية:
- عزل مسارات الدعم الخارجي: يجب تكثيف الضغط الدبلوماسي والعقوبات على الأنظمة الإقليمية التي تُغذي الصراع (كإريتريا و)، والتركيز على تفكيك شبكات شحن الأسلحة.
- دعم اللجنة الرباعية كأولوية قصوى: يجب تكثيف الدعم لجهود الوساطة الإقليمية والدولية لضمان وقف إطلاق النار الدائم قبل أن تنتقل حرب الوكالات إلى دول الجوار الهشة أمنياً.
- مواجهة تدويل الصراع: يجب على المجتمع الدولي معالجة ملفات المرتزقة من الجانبين (كقوات التيغراي والإريتريين والكولومبيين ) ضمن أي عملية سلام، للحد من استغلال النزاعات الداخلية لأغراض جيوسياسية.

