تقرير شامل حول دراسة “التنمية والاعتمادية للأنظمة المينائية لدولة هشة متجذرة في العولمة: مثال جيبوتي”
1. تحليل الدراسة ومؤلفها
المؤلف وتاريخ النشر
الدراسة عبارة عن أطروحة دكتوراه في الجغرافيا ، أعدها إسماعيل عبد الله قيره (Ismaël Abdillahi Guirreh) وقُدمت في جامعة نورماندي (Normandie Université) بفرنسا عام 2017.
وقد أشرف على الأطروحة بيير توريز (Pierre Thorez).
نوقشت الأطروحة علنًا في 14 ديسمبر 2017.
عنوان الدراسة والمنهجية
العنوان الكامل للدراسة هو: “Développement et dépendance des systèmes portuaires d’un état fragile ancrés dans la mondialisation: l’exemple de Djibouti” (التنمية والاعتمادية للأنظمة المينائية لدولة هشة متجذرة في العولمة: مثال جيبوتي).
تنطلق الدراسة من فرضية أن جيبوتي، بوصفها “دولة مدينة” نشأت بفعل التوسع الاستعماري ، يتشابك فيها مصير الميناء والمدينة والبلد بأكمله. وتحاول الدراسة الإجابة عن تساؤلات محورية: هل يقتصر ميناء جيبوتي على كونه مجرد نقطة تجارية استعمارية، أم أن موقعه الجغرافي والجيوسياسي المتميز يفسر صعوده؟
وهل يمثل النظام المينائي الجيبوتي فعلاً دافعاً للتنمية، أم أن هذا وهم تعززه الأدبيات الجيواقتصادية؟.
اعتمد المؤلف في هيكلة الأطروحة على ثلاث مراحل رئيسية:
- المرحلة الأولى: استجواب ظروف تطور ونشأة ميناء جيبوتي لتحديد خصوصيته كـ”ميناء بلا خلفية إقليمية خاصة” (arrière-pays propre).
- المرحلة الثانية: تحليل تطور الوظيفة المينائية، وتتبع الوظائف التقليدية للميناء.
- المرحلة الثالثة: استقصاء التفاعل بين ممر النقل والمجال الجغرافي الذي يمر به (الجزء الجيبوتي).
2. السياسات الجيبوتية: الاقتصاد، الميناء، والجيوسياسية
تُظهر الدراسة أن السياسة الجيبوتية، وخاصة بعد استعادة نشاط الميناء في العقد الأول من القرن الحادي والعشرين، قامت على ركائز ثلاث:
استغلال الموقع الجيوسياسي لتعزيز الأمن، والانفتاح الاقتصادي عبر الشراكات الأجنبية، وتحويل الميناء إلى مركز لوجستي إقليمي (Hub).
2.1. السياسة الجيوسياسية: استغلال الموقع الاستراتيجي 🌍
الموقع الجغرافي لجيبوتي في قلب منطقة جغرافية سياسية ذات أهمية قصوى (القرن الأفريقي ومضيق باب المندب) كان دائمًا الدافع الأساسي لوجودها وتطورها.
استغلال الأزمات الإقليمية
- عامل النجاة من الأزمات: تشير الدراسة إلى أن الأزمات الجيوسياسية الإقليمية كانت في البداية صادمة ومؤدية لتراجع الميناء (مثل أزمة السويس 1967، وضم إثيوبيا لإريتريا، وحرب أوغادين 1977).
- التحول إلى فرصة: لكن منذ أواخر التسعينيات، تحولت هذه الأزمات إلى عامل صعود:
- الصراع الإثيوبي-الإريتري (1998-2000): أدى الصراع إلى إعادة تحويل كامل حركة العبور الإثيوبية إلى ميناء جيبوتي، مما أنقذ الميناء وأعاده إلى الساحة الإقليمية.
- مكافحة الإرهاب والقرصنة: هجمات 11 سبتمبر 2001 وتهديد القرصنة الصومالية عززت الدور الاستراتيجي لجيبوتي كـ “حصن دولي”.
سياسة القواعد العسكرية (“القلعة العسكرية”)
اعتمدت جيبوتي على سياستها “المتعددة القواعد” لتعزيز أمنها القومي واستدرار الإيرادات:
- تعزيز الدور الاستراتيجي: أصبحت جيبوتي نقطة لوجستية للقوات الأمريكية (2003) واليابانية، إلى جانب التواجد الفرنسي القديم. وقد عزز هذا التواجد دور جيبوتي كـ”نقطة لوجستية”.
- الفوائد الاقتصادية المباشرة: دفعت القوات الأجنبية (الأمريكية والفرنسية) إيجارات سنوية كبيرة واستخدمت المنشآت المينائية والجوية (القوات الأمريكية دفعت 30 مليون دولار سنوياً وأصبح المبلغ أكثر من 60 مليون دولار لاحقاً).
- مواجهة التنافس العالمي: استغلت جيبوتي التنافس بين القوى العظمى (مثل قلق الغرب واليابان من التوسع الصيني) لتعزيز قيمتها الجيوسياسية والاقتصادية.
2.2. السياسة الاقتصادية: الانفتاح والشراكة مع القوى الصاعدة
البيئة الاقتصادية الداخلية الهشة (ندرة الموارد وضعف السوق المحلي) دفعت جيبوتي لتبني سياسة الاقتصاد الخارجي، تعتمد بشكل كامل على الخدمات والعبور.
الخصخصة والشراكات مع المشغلين العالميين
- تحويل الحوكمة المينائية: لمواجهة الأزمات وتأمين التمويل للتحديث، تحولت جيبوتي إلى الشراكة بين القطاعين العام والخاص.
- دبي وورلد (DP World): كانت دبي أول من استثمر بعد عام 2000 ، وحوّلت جيبوتي إلى مركز لوجستي إقليمي (Hub logistique régional) باستثمارات بلغت حوالي مليار دولار.
- هدفت دبي إلى استخدام جيبوتي كـ”بوابة دخول” للقارة الأفريقية.
- برغم نجاح الشراكة في النمو المالي للميناء ، إلا أن العلاقة تدهورت لاحقًا بسبب الخلافات حول سياسة الميناء.
- الصين (China Merchants Holding International – CMHI): أصبحت الصين الشريك الأكبر، وهي قوة دافعة وراء مشاريع البنية التحتية العملاقة.
- تندرج استثمارات الصين في إطار “طريق الحرير الجديد (Nouvelle Route de la Soie – NRS)”.
- مولت الصين خط السكة الحديدية الجديد (756 كم) وساهمت في إنشاء ميناء دوراليه متعدد الأغراض (DMP).
- تستهدف الصين استخدام جيبوتي كنقطة دخول وتوزيع لمنتجاتها إلى شرق أفريقيا، مع التركيز على دور “ميناء عبور (Port de desserte)” لعمقها الإثيوبي.
- استثمارات أخرى: استفادت جيبوتي من التمويل العربي (الصندوق العربي للتنمية، الصندوق السعودي) لبناء ميناء تاجورة.
تطوير المناطق الحرة (Zones Franches)
- منطقة جيبوتي الحرة (DFZ): أُنشئت في عام 2004 بدعم دبي (JAFZA) لدعم النشاط المينائي وخلق أنشطة ذات قيمة مُضافة.
- هدف استراتيجي: تهدف المناطق الحرة إلى تحويل جيبوتي إلى مركز إقليمي للتبادل التجاري (مركز لوجستي متعدد الوسائط) لاستهداف السوق الإثيوبي وكتلة الكوميسا (COMESA).
- منطقة طريق الحرير: المشروع الأبرز هو “محطة طريق الحرير بجيبوتي” (Djibouti Silk Road Station)، وهي منطقة حرة ضخمة (3500 هكتار) تُدار من قبل المشغل الصيني (CMHI)، وتهدف إلى جعل جيبوتي نقطة دخول لمنتجات الصين إلى جزء كبير من أفريقيا.
2.3. السياسة المينائية وتطوير وظائفه
تغيرت وظيفة الميناء على مر السنين، لكن السياسة الحديثة تهدف إلى تحقيق تكامل الوظائف (Concomitance) بدلاً من التناوب بينها.
الوظائف التاريخية (التناوب)
- وظيفة محطة التزويد (Escale de soutage): هيمنت هذه الوظيفة (تزويد السفن بالوقود) في فترة ما بعد الحرب العالمية الثانية، وجعلت جيبوتي “محطة خدمة” للبحر الأحمر.
- وظيفة عبور العمق (Desserte de l’arrière-pays): كانت هذه الوظيفة موجهة أساساً لإثيوبيا عبر خط السكة الحديدية منذ 1917.
الوظيفة الحديثة (التكامل والتحول إلى Hub)
الاستراتيجية الحديثة تقوم على التنويع (Diversification):
- مركز إعادة الشحن (Transshipment Hub): تم التركيز على تطوير مناولة الحاويات، حيث كان ميناء جيبوتي من أوائل موانئ المنطقة في ذلك (1985). وقد تم تعزيز ذلك بافتتاح محطة دوراليه للحاويات (DCT) في 2009، القادرة على استقبال سفن الجيل الأحدث.
- على الرغم من المنافسة الإقليمية (جدة، صلالة) ، فإن الميناء يستغل عدم استقرار المنافسين (مثل عدن) ويدعم دوره كمركز لوجستي
- تطوير البنى التحتية الداعمة للعمق:
- ميناء دوراليه النفطي (TP): بدأ عمله 2006، ووظيفته الأساسية هي تلبية الطلب الإثيوبي المتزايد على الوقود (87% من الحركة موجهة لإثيوبيا).
- ميناء تاجورة (Tadjourah): تم بناؤه في الشمال (2017) لتنويع العرض المينائي، وتخفيف الازدحام عن العاصمة، وخدمة شمال إثيوبيا (خاصة لتصدير البوتاس).
- ميناء جوبيت (Goubet): ميناء تعديني (minéralier) لخدمة استغلال ملح بحيرة عسل.
- السكك الحديدية (الجيل الجديد): يمثل مشروع السكة الحديدية الكهربائية الجديد (756 كم) الممول صينياً بين دوراليه وأديس أبابا ، تحديثاً جذرياً لزيادة الكفاءة والسرعة، ويؤكد على الأولوية المطلقة لربط العمق الإثيوبي.
2.4. تحديات سياسات الممر (Corridor) والتبعية الإثيوبية
يُظهر تحليل الممر (Corridor) بين جيبوتي وأديس أبابا علاقة معقدة من الاعتماد المتبادل، لكنها تميل إلى هيمنة الطرف الإثيوبي.
الهيمنة الإثيوبية
- سيطرة الشاحنات: رغم إعادة تأهيل الطرق، يهيمن الإثيوبيون على سوق النقل البري الدولي، مع حصة سوقية جيبوتية لا تتجاوز 2%. وهذا يرجع إلى عوامل التكلفة (رواتب أقل للعمالة الإثيوبية) وقوة لوبيات النقل الإثيوبية.
- حصة العبور: يمثل العبور الإثيوبي أكثر من 80% من إجمالي حركة الميناء.
- التواجد الجمركي: يُعتبر وجود الجمارك الإثيوبية في ميناء جيبوتي استثناءً إفريقياً، ويُنظر إليه كـ**”امتداد للحدود الإثيوبية إلى الميناء”** ، مما يحد من السيادة الجمركية الجيبوتية.
التنمية المحلية للممر
رغم التدفق الهائل للشاحنات (1600 شاحنة يومياً في الاتجاهين) ، فإن الفوائد التنموية للمناطق التي يمر بها الممر (مثل قرى طريق جيبوتي-جالافي) متباينة (contrastés).
- “تأثير النفق” (Effet tunnel): يركز المستثمرون (الأجانب والوطنيون) على سيولة الحركة بين طرفي الممر (الميناء والعمق الإثيوبي) على حساب التنمية المحلية.
- نمو حواشي الطريق: ظهرت أنشطة اقتصادية مرتبطة بخدمة السائقين الإثيوبيين (مطاعم، إصلاح، بيع سلع).
- التحول العمراني: شهدت منطقة PK12 (التي كانت في السابق حياً فقيراً) تحولاً جذرياً، حيث أصبحت مركزاً لوجستياً يضم مستودعات وشركات النقل، مما رفع قيمة الأراضي بشكل كبير.
3. خلاصة عامة
تخلص الدراسة إلى أن ميناء جيبوتي هو نتيجة حتمية للعولمة والجيوسياسية. لقد نجحت جيبوتي، الدولة “الجيوسياسية” بامتياز، في استثمار موقعها وتحويل الأزمات الإقليمية إلى فرص نمو، خاصة عبر الشراكة مع القوى الصاعدة (الصين ودبي).
- نقطة محورية عالمية: أصبحت جيبوتي بالفعل عقدة لوجستية رئيسية على المحور البحري أوروبا-آسيا، وتؤكد دورها كبوابة لـ”إثيوبيا المتحولة اقتصادياً”.
- الاعتمادية (Dépendance): لكن هذا النجاح يأتي بثمن، وهو الاعتمادية الاقتصادية المزدوجة:
- اعتمادية العمق (إثيوبيا): ميناء جيبوتي تحت سيطرة العمق الإثيوبي (حركة مرور، هيمنة شركات النقل، التواجد الجمركي).
- اعتمادية الشريك الأجنبي: يعتمد التحديث والتمويل على القوى الأجنبية (التي لديها أجندتها الخاصة، مثل الصين في إطار طريق الحرير)، مما يطرح تساؤلات حول الديون السيادية والتحكم الوطني في مصير البلاد على المدى الطويل.
تعتبر الأطروحة أن نجاح جيبوتي ليس “تنمية ذاتية”، بل “استثمار انتهازي” للعوامل الخارجية.
ويُبقى هذا الوضع جيبوتي على مفترق طرق بين تحقيق حلم “سنغافورة القرن الأفريقي” أو الوقوع في شكل جديد من الهيمنة الأجنبية.